ملخص الدراسة:
لم يكن الاقتصاديون في الطور ما قبل الكلاسيكي قد فصلوا الاقتصاد عن الأخلاق، فقد كان الفلاسفة المدرسيون يعالجون الموضوعين جنبا إلى جنب. فقد كان ادم سميث ينظر إلى نفسه على أنه رجل فلسفة أخلاقية ورجل اقتصاد سياسي في أن واحد، فقد كان أول عمل له هو: نظرية المشاعر الأخلاقية، التي أثرت في كتابه: ثروة الأمم. لكن في القرن التاسع عشر، بعد أعمال دافيد ريكاردو، انفصل علم الاقتصاد عن جذوره الأخلاقية وصار يركز على آليات تحديد الأثمان والأجور، أكثر من تركيزه على الثمن العادل. وصار ينظر إلى الأحكام الأخلاقية أكثر فأكثر على أنها أمر غير علمي، ولا سيما أن الاقتصاد قد انتقل من اقتصاد معياري تقديري إلى اقتصاد وضعي تقريري، وصار شغله الشاغل تفسير كيفية عمل الأسواق فعليا، وليس كيف أن تعمل مثاليا، وصارت النظرية الجيدة هي التي تتصف بالتماسك المنطقي، وتجتاز الاختبار الواقعي، وليست تلك التي تنطلق من أسس أخلاقية متينة.
لكن شهدت العقود الأخيرة إصرارًا للعودة إلى الاقتصاد المعياري خاصة مع ظهور علم الاقتصاد الإداري، الذي يميل إلى المسائل الأخلاقية بنسبة ضعيفة، إلا انه صار من الممكن التسليم بأهداف أخلاقية يمكن أن تأتي من خارج علم الإدارة. فقد تبنى كبار المفكرين في المسائل المنهجية تعريفات للاقتصاد ذات آفاق أوسع، تتعرض في نهاية المطاف إلى المسائل الأخلاقية والدينية. فباريتو، يعتبر أن الاقتصادي الذي يتخذ تدبيرا عمليا معينا عليه أن يراعي آثاره الأخلاقية والاقتصادية. فالإنسان الاقتصادي لا يضم فقط الإنسان الاقتصادي، بل يضم كذلك الإنسان الأخلاقي والإنسان المتدين. ومن المشروع فصل الأثار الاقتصادية عن المسائل الأخلاقية والدينية.
أن الذي أدى إلى زيادة الاهتمام بأخلاقيات الأعمال هي الفضائح التي وقعت في أواخر الثمانينات من القرن العشرين وأوائل التسعينات، في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا، وامتدت إلى إيطاليا وفرنسا واليابان، ما أدى إلى قيام جماعات الضغط بحماية المستهلك والبيئة، وانتشار الخصخصة حتى في المرافق العامة، والخوف من النزوع إلى الاحتكار ورفع الأسعار. فحتى في مجال التمويل ظهرت في السنوات الأخيرة ممارسات غير أخلاقية، ربما تعبر عن حقيقة مفادها أن الهندسة المالية، وتطوير المشتقات، مثل المستقبليات والخيارات والمبادلات، قد فتحت إمكانات جديدة للغش والتدليس.
لقد كتب في العقدين الأخيرين عن الاقتصاد الإسلامي أكثر مما كتب عنه خلال 1400 سنة مضت. رغم اختلاف الظروف الاقتصادية والتجارية اختلافا كبيرا عن عهد النبي محمد صلي الله عليه وسلم، لكن جزءا من التحدي الواقع على الاقتصاديين المعاصرين، وعلى الفقهاء، يتمثل في تفسير التعاليم الدينية الاقتصادية في سياق حديث. فهناك أكثر من 1400 آية من أصل 6226 آية للمسائل الاقتصادية تقسم الأنشطة الاقتصادية إلى أنشطة منتجة وأخرى غير منتجة. وما ظهور الاقتصاد الإسلامي كتوجّه من توجهات الدراسات الإسلامية الأكاديمية إلا للوقوف على ما يمكن للمبادئ العقيدية والتشريعية والقيمية من تعديل وتقويم للسلوك الاقتصادي.
معظم القرآن الكريم يقوم على العبارات القيمية: افعل و لا تفعل (الاوامر والنهي)، مثل: الحث على العمل ، والصبر، ومنع الاسراف، واعداد القوة…كلها مقولات لا تتعارض مع الاقتصاد، بل على العكس فإنها تؤيده وتقويه.
د. فتنــــي مايـــــا
المنظمة العربية للتنمية الإدارية – 2020