أضحت ظاهرة الفساد ظاهرة عالمية تعانى كل دول العالم منها بشكل أو بأخر حسب فهي تختلف في حدتها، ومدى توغلها، والمجالات والأنشطة التي تظهر فيها بوضوح، حسب الأنظمة السياسية المختلفة التي تنتهجها هذه الدول، فالفساد حجمه، وأشكاله، وأنواعه تختلف في الدول الديمقراطية عنها في الدول الديكتاتورية المستبدة، وبالرغم من أن الاهتمام العالمي بمكافحة الفساد الإداري، والذي ظهر مردوده في العالم في العقدين الأخيرين، بإبرام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003؛ إلا أن الفساد قديم قدم البشرية فهو موجود ومرتبط مع وجود الحياة الإنسانية على الأرض، وفي مختلف الحضارات الإنسانية التي مرت على البشرية؛ فنظرًا لخطورة الفساد نجده ذكر في القرآن الكريم؛ في خمسين موضعًا، وفي مناسبات مختلفة، تندد بالفساد ، وتلوم المفسدين، وتبين خطورة الفساد، وعاقبته الوخيمة؛ وقد وجدت إشارات للفساد الإداري في بعض الأفكار الاقتصادية القديمة، فقد حرم أفلاطون الملكية على طبقة الحكام، كما حرم عليهم الزواج؛ وتكوين عائلات لحمايتهم من إغراءات الفساد؛ معتبرًا أن انحراف الحكام، وفسادهم إنما يتم بدافع من غريزة حب المال، أو الضعف العاطفي تجاه الأقارب؛ كما تناولت مقدمة ابن خلدون ظاهرة الفساد الإداري الذي يقع من أصحاب الدولة، ووزرائهم، والكتاب، والشرطة، حيث يذكر أن الكثير من أصحاب الممالك، صاروا يفرون إلى دولة ثانية، بعد حصوله على المال من الدولة الأولى، واستمر الفساد في الانتشار إلى يومنا هذا، وتنوعت أشكاله، ومظاهره، واختلفت صوره وتطورت، من زمان لزمان زمن مكان لمكان.
ويرجع الاهتمام العالمي لمكافحة الفساد الإداري، لما له من آثار سلبية تؤدى إلى تدهور المجتمعات التي يصيبها في مختلف نواحيها، الإدارية، والاقتصادية، والسياسية، ولما يمثله الفساد الإداري من انتهاك للقانون، والخروج على القيم والقواعد الأخلاقية السليمة للمجتمع، وينقسم الفساد الإداري في أي مجتمع إلى فساد الحاجة Corruption of Need، وفساد الجشع Corruption of Greed، وتحت هاتين الصورتين تظهر أشكال عديدة للفساد، ومتنوعة منها: الرشوة ، والمحسوبية، والابتزاز، والإكراه، والاختلاس، والتواطؤ، علاوة على المحاباة أو التمييز، وما يتضمنه ذلك من تهاون في تطبيق معايير الكفاءة، واستبدال المعايير الموضوعية بمعايير شخصية؛ ولما كان الفساد الإداري ظاهرة متشعبة، ومعقدة، وتختلف وسائله في الزحف داخل المجتمعات، وإعادة إنتاج نفسه؛ فإن سياسة مواجهته ليست باليسيرة، وفي هذا الإطار تتعدد الحلول التي تبنتها الدول لمكافحة الفساد الإداري بكافة أشكاله؛ فبعض الدول تبنت وضع استراتيجيات وطنية لمئات من المقاييس الإدارية، والقانونية، لقياس مستوى الفساد الإداري في مختلف أنشطة الدولة للوصول إلى سبل لحصاره ومكافحته؛ ودول أخرى تبنت سياسة تهدف إلى تعزيز الشفافية والنزاهة وتعظيم المساءلة في النظام الإداري للدولة؛ بينما نجد دول آخري تبنت وضع خطط لتطوير البنية التشريعية ومواءمتها مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية في هذا الشأن؛ ويعد ارتفاع مؤشر الفساد الإداري في أي دولة دليل على عدم فعالية الرقابة، وغياب القانون وعدم تفعيل نصوصه في هذه الدولة، والعكس صحيح فكلما انخفض مؤشر الفساد الإداري في أي دولة ؛ عَد ذلك دليلًا على وجود رقابة فعالة في هذه الدولة، وأن مبدأ المشروعية يطبق بها، وأن هناك ديمقراطية حقيقية، ومشاركة حقيقة من المواطنين، وأن القضاء، والأجهزة الرقابية تعمل بها دون تدخل من أحد، في ظل مبدأ الفصل بين السلطات، وهو بالطبع ما يساعد ويساهم في رفع من أسهم الدولة في المحافل الدولية، ويساعدها على جذب الاستثمارات، والأموال، وتسارع وتيرة معدلات التنمية فيها.وتعد الشفافية الإدارية، وحرية تداول المعلومات، وتفعيل الحق في الإفصاح من أهم آليات مكافحة الفساد الإداري في الدول، فالشفافية تعنى: الوضوح التام، والعلانية المطلقة في كل الممارسات التي تقوم بها، وبما يتعارض بالطبع مع مفهوم السر الإداري أو الوظيفي، والذي يؤسس لانغلاق الإدارة على نفسها، من خلال منع الإفصاح عن البيانات، والمعلومات التي تملكها، وبالطبع الشفافية الإدارية عكس السر الإداري، فالشفافية ترسخ لمبدأ المساءلة، والرقابة الذاتية، والمجتمعية مما يحد ويقلص من حالات الفساد الإداري؛ بينما السرية ترسخ للفساد الإداري بكل صوره وأشكاله؛ ولذلك نجد أن اغلب دول العالم الآن ترسخ لحرية تداول المعلومات، والشفافية من خلال نصوص دستورية، بل ومن خلال قوانين كاملة ترسخ لذلك في مكافحتها للفساد، وتعظيم قيم النزاهة، والحكم الرشيد، والمساءلة داخل المجتمع، وفى إطار تفعيل حقوق الإنسان، ومكافحة الفساد الإداري؛ وهو ما يظهر في تقرير نشرته مجلة Fringe،عن حرية تداول المعلومات حول العالم، في عددها الصادر بتاريخ 30 ديسمبر 2012 ؛ من أن هناك حوالي (93) دولة أقرت قوانين تنظم ذلك الحق حول العالم، وأن (180) منظمة شبه حكومية حول العالم، وثلاثة منظمات دولية أقرت حرية تداول المعلومات في نظامها الأساسي؛ وتعد الأردن أول دولة عربية أقرت قانون ينظم حرية تداول المعلومات، والحق في الإفصاح، وذلك في عام 2007.أهمية الدراسة: يتعارض ويصطدم الفساد الإداري دائمًا، بعدد من المفاهيم منها الشفافية الإدارية، والنزاهة والمساءلة؛ وذلك لكون الشفافية الإدارية تقوم علي توافر المعلومات التي تتعلق بالسياسات، والنظم، والقوانين، والقرارات، واللوائح لكافة المواطنين، وهو بالطبع يخدم، ويساعد في مساءلة الموظفين، وأصحاب المناصب والنفوذ داخل الدولة، عما يقترفونه من أعمال بالمخالفة للقوانين واللوائح والقرارات الإدارية”؛ وتفعيل مفهوم النزاهة والرقابة الذاتية في أعمال الموظفين العموميين، والتي تتكامل جميعها مشكلة جبهة لمكافحة الفساد الإداري؛ ونظرًا لأنه من مظاهر التخلف الإداري في الوطن العربي بشكل عام، فيما يتعلق بالشفافية الإدارية ، من وجود نقص شديد في الإحصاءات والمعلومات حول النشاط الإداري للدولة، وحتى إن وجدت تلك الإحصاءات تكون قديمة وغير دقيقة، مع اصطدام الشفافية الإدارية بما يطلق عليه السر الإداري الوظيفي، مما يضيق، ويحد، ويحجم من فرص مكافحة الفساد الإداري، فلا مكافحة حقيقة للفساد الإداري، دون وجود شفافية إدارية، وبيانات دقيقة متوافرة بشكل دوري، وعصري مواكبة لكل ما يحدث داخل الدولة من أعمال، ومشروعات، وقرارات، مما يتيح المساءلة القانونية والشعبية للمسئولين، ويضعهم تحت رقابة مستمرة تتيح منع الفساد الإداري، أو على الأقل تقليل خطورته والحد منها. وهو ما لا يتوافر حتى الآن في أغلب الدول العربية، حتى الدول التي ورد بدساتيرها نصوص ترسخ لحرية تداول المعلومات، أو التي أصدرت قوانين تنظم حرية تداول المعلومات، والشفافية الإدارية، لا زالت بعيدة كل البعد عن تطبيق الحقيقي، لهذه النصوص بشكل جدي يكافح الفساد الإداري.أهداف الدراسة: تستمد الدراسة أهميتها من خلال تعرضها للجوانب التالية:1- ماهية الفساد الإداري.2- ماهية الشفافية الإدارية.3- التعرف على المفاهيم، والمصطلحات المقاربة للشفافية الإدارية.4- ماهية الأسرار الإدارية.5- التعرف على حدود السر الوظيفي.6- العلاقة بين الشفافية الإدارية والأسرار الإدارية.7- العلاقة بين الشفافية الإدارية ومكافحة الفساد الإداري.8- التعرف على دور الاتفاقيات الدولية في مكافحة الفساد الإداري، والتكريس للشفافية الإدارية9- الوقوف على دور القضاء الدولي، والمصري في الترسيخ لفكر الشفافية الإدارية، ودوره في مكافحة الفساد الإداري.10- الوقوف على دور القضاء الدولي، والمصري في وضع الحدود لما يعد سرًا وظيفيًا، ولما لا يعد كذلك، وبالتالي يجوز نشره وإعلانه.11- التعرف على دور منظمات المجتمع المدني الدولية في مكافحة الفساد الإداري، والتكريس للشفافية الإدارية.12- التعرف على المتطلبات اللازمة لمكافحة الفساد الإداري، تحقيق الشفافية الإدارية، وحرية الإفصاح عن المعلومات.إشكالية الدراسة: تعانى كل دول العالم من ظاهرة الفساد الإداري، والتي تختلف درجته من دول إلى آخري حسب أسبابه وعوامله التي يصعب التمييز بينها، والتي تختلف درجة شمولها من مجتمع لآخر، فمنها ما يرجع إلى تضخم الأجهزة الإدارية، والإهمال واللامبالاة، وغياب التنسيق بين الموظفين العمومين، وعدم المرونة والمحاباة والمحسوبية، والمركزية الإدارية الشديدة، وقد شغل دول العالم، والمؤسسات الدولية مسألة كفية مكافحة الفساد الإداري، والآليات التي من خلالها يمكن مكافحة الفساد الإداري، والتي ظهر منها برامج النزاهة، والشفافية الإدارية، وما اتخذته بعض المؤسسات الدولية مثل: البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي من فرض شروط مكافحة الفساد الإداري، وتحقيق النزاهة والشفافية الإدارية لمنحهم المساعدات الدولية وتمويلها؛ وبالطبع دول العالم تسعى بقوة لتنبني هذه السياسات ليس فقط للحصول على مساعدات الجهات الدولية، بل ولما يمثله استشراء الفساد الإداري من خطر على الأمن الوطني، وبصفة خاصة علي الأمن الاجتماعي؛ فتأثير الفساد الإداري على اقتصاد الدولة، وكونه محفزًا لزيادة معدلات البطالة، وتدنى دخول المواطنين، وانخفاض مستوى جودة الخدمة التي تقدم للمواطنين، إضافة إلي كونه عاملًا ضالعًا في نهب ثروات الدولة، وإساءة استخدامها وإهدارها، كل ذلك يؤدى إلى زيادة معدلات الجريمة، ونشر الفوضى داخل الدولة، كما يؤثر على الأمن الوطني الخارجي للدولة.تساؤلات الدراسة: حاولت هذه الدراسة الإجابة على عدد من التساؤلات منها مفهوم الشفافية الإدارية، والمفاهيم المرتبطة بها، تاريخ بداية استخدام مصطلح الشفافية الإدارية؟!؛ وما هي العلاقة بين الشفافية الإدارية، والسر الوظيفي؟!؛ وما هي حدود السر الوظيفي ونطاقه، وما يمكن أن يفصح عنه، وحالات سقوط السرية عنه ؟!؛ وما هو دور القضاء الدولي والوطني في تحديد حدود ونطاق السر الوظيفي ؟!؛ وما هي الإيجابيات والسلبيات المترتبة على التكريس لمبدأ الشفافية الإدارية؟!؛ وما هي المعوقات التي تقف عقبة في طريق التكريس لمبدأ الشفافية الإدارية؟!؛ وهل لعب القضاء الدولي والوطني دورًا في التكريس للشفافية الإدارية؟!؛ وما هو الفساد الإداري ؟!؛ وما هي صور الفساد الإداري؟!؛ وما هي خصائصه؟!؛ وكيف رسخت الاتفاقيات الدولية، ومنظمات المجتمع المدني الدولية لمكافحة الفساد الإداري، وللشفافية الإدارية؟!؛ وما هي العلاقة بين الشفافية الإدارية، ومكافحة الفساد الإداري؟!؛ وما هو الوضع في مصر قبل ثورتي يناير 2011– يونيو 2013، وبعدهما في مكافحة الفساد الإداري، والتكريس للشفافية الإدارية وحرية تداول المعلومات؟!؛ وماهي الآليات المطلوبة لمكافحة الفساد الإداري؟!؛ وهل يوجد في مصر قانون يرسخ للشفافية الإدارية، وحرية تداول المعلومات؟!.منهج الدراسة: نظرًا لأن المنهج – بوجه عام – هو الطريق الذي يسلكه العقل الإنساني سعيًا وراء الحقيقة؛ وانطلاقًا من خصوصية موضوع الدراسة وأهميته، ونظرًا لكثرة، وتشعب المسائل التي يثيرها موضوع الدراسة، لجئنا لاستخدام عدد من المناهج العلمية، تتكامل فيما بينها بهدف إثراء موضوع الدراسة، والإلمام بكافة جوانبه وتفاصيله، ومن أجل تحقيق هذه الغاية قد اتبعنا عدة مناهج للبحث، منها المنهج التاريخي للتأريخ لبعض جوانب لبحث، والمنهج التحليلي للوصول للمتطلبات اللازمة لتحقيق الهدف من الدراسة، والمنهج المقارن لتوضيح ما قررته دول العالم في مجال موضوع البحث، والمنهج التطبيقي باعتبار أن الهدف من الدراسة مناقشة موضوع قابل للتطبيق، ومن خلال إلقاء الضوء على بعض أحكام القضاء الدولي، والوطني فيما تثيره موضوعات البحث، ودور تلك الأحكام في وضع الحدود والنطاق القانوني لها.خطة الدراسة: تناول الدراسة موضوع البحث من خلال الخطة البحثية المكونة من بابين كالآتي
:الباب الأول: الشفافية الإدارية والحفاظ على الأسرار الإدارية.الباب الثاني: الشفافية الإدارية ومكافحة الفساد في ضوء المواثيق الدولية وأحكام القضاء.
هشام عبدالسيد الصافي
25سبتمبر 2021