مفتاح الاقتصاد

تاريخياً كانت دوماً قوى «المال القديم» ما تنظر بازدراء واحتقار لأصحاب «المال الجديد» فيطلقون عليهم لقب «حديثي النعمة» أو كما يطلق عليهم بالفرنسية «النوفوريش». ولكن هذه النظرة الدونية لها جذور استعمارية من القوى الاقتصادية التقليدية التي تكونت في أوروبا القديمة، وتحديداً في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا ضد المال الجديد الذي تكون في مستعمراتهم وصولاً إلى الانفجار العظيم في المال الجديد الذي تكون في الولايات المتحدة الأميركية والذي بدأ يكبر حتى تفوق عليهم جميعاً.

اليوم هناك معايير مالية واقتصادية لمراقبة وقياس «خلق الثروات وتكوينها» في مختلف دول العالم، حتى المصارف العالمية الكبرى استحدثت أقساماً فيها بمسمى «خلق الثروات» بعد أن كان الاهتمام قديماً محصوراً في «إدارة الثروات». تعتبر الصين والهند اليوم أهم دولتين في العالم فيهما ثروات هائلة تخلق كل يوم في قطاعات مختلفة ولأسماء جديدة من الناس. هناك فرق عظيم بين «خلق الثروات» وبين «تحويل الثروات» الأولى هي Wealth Creation والثانية Wealth Shift. الأولى تعتمد على القدرات الشخصية والعمل الدؤوب واستغلال الفرصة، والثانية تستغل ظروفاً غير موضوعية وغير عادلة تمنح لها من القوى الحاكمة لتحويل الثروات من قطاعات إلى أخرى، من مجموعات إلى أخرى، من أشخاص إلى آخرين، ومن مناطق إلى أخرى. والثانية يطلق عليها توصيف مهم وهو إعادة الهندسة الاجتماعية، وهي مسألة حدثت على سبيل المثال بعد الحرب الأهلية في أميركا بعد انتقال مراكز الثقل من الجنوب إلى الشمال، ولا تزال تحدث بصورة مختلفة حول العالم.

هناك مقولة لافتة ومهمة للاقتصادي المعروف جوناثان ساكس يقول فيها إن «اقتصاد السوق ناجح جداً في خلق الثروات ولكنه ليس جيداً في حسن توزيع الثروات». معايير الاقتصاد الناجح قديماً كانت قدرة السيطرة والهيمنة من قبل المؤسسات، ولذلك كان من الطبيعي أن يصعد نفوذ عوائل مثل «روثشايلد» في فرنسا و«مديتشي» في إيطاليا و«تيسين» في ألمانيا في دلالة على قوة النفوذ الاقتصادي لهم و«نجاحهم» وصولاً للنموذج الروسي والصيني الذي يعتمد على اقتصاد الدولة State Capitalism في المقام الأول. وبنظرة دقيقة إلى أحداث ثورات الربيع العربي، نجد أن أحد أهم عوامل تفشي الفساد والخلل الاقتصادي هو أن معظم الدول التي شهدت هذه الثورات لم يكن المناخ فيها يسمح بخلق الثروات، ولكنه كان يزكي تركيز الثروات أو تحويل الثروات، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً وباتت مكررة ومعروفة، وهذا عكس ما حصل في الهند على سبيل المثال كما يوضح جورتشاران داس الكاتب المشهور والتنفيذي المتقاعد الذي قاد بروجتكر وجامبل في الهند إلى نجاحات عظيمة، فيقول إن القوانين التي حررت الاقتصاد في الهند ساهمت بشكل هائل ومباشر في إيجاد المناخ المناسب لخلق ثروات عظيمة وجديدة.

لا يزال الاقتصاد هو مفتاح الرخاء للشعوب، وهذا يتحقق متى ما توفرت قوى العدل والسوية التي تتيح الفرصة للجميع بلا أجندات خفية.

حسين شبكشي – اعلاميّ ورجل اعمال سعوديّ وعضو مجلس ادارة شركة شبكشي للتّنميّة

جريدة الشرق الأوسط – الخميس 21 نوفمبر 2019


Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp
Share on email

أحدث​ المقالات

القائد والقيادة ونجاح الأعمال

تعد القيادة الأساس في نجاح واستدامة جميع الأعمال المؤسسية الربحية وغير الربحية. القائد الناجح يفوض السلطة وينمي اتخاذ القرارات في الموظفين بشرط أن يكونوا على

تفاصيل »

في زمن تتحول فيه الأفكار إلى ثروات، والعقول إلى سلع يتم تداولها في بورصات خفية… فمن سيكون السيد الجديد لعصر الاقتصاد المعرفي؟

الاقتصاد المعرفي.. حين تصبح العقول هي الثروة الجديدة: نعيش اليوم فيما يعرف بـ «عالم الاقتصاد المعرفي»، عالم تتسارع فيه الخطى وتنقلب فيه الموازين حتى بات

تفاصيل »

النجاة في عالم إداري سريع التغير

في بيئة إدارية تتغير بسرعة غير مسبوقة، لم يعد البقاء مرهوناً بالكفاءة التقليدية وحدها، بل بقدرة المؤسسات وقادتها على التكيف السريع والابتكار المستمر، ويشهد العالم

تفاصيل »