سيرته الذاتية:
ولد جالبريث، جون في 15 أكتوبر 1908م في أيونا ستيشن، وهي جماعة إسكتلندية من المزارعين في الشاطئ الشمالي الكندي لبحيرة أيرى في أونتاريو. وبدأ والده حياته معلمًا وتحول فيما بعد إلى امتهان الزراعة. وهو طويل القامة، وكذلك ابنه، وعمل مراجعًا للمقاطعة، ويعتبر شخصية مهمة جدًا في مجتمع منعزل. تنتمي عائلة جالبريث لطائفة تعرف بالمدرسة القديمة أو البابويين “ذوي الصدفة الصلبة”، وقد التحق بمدرسة ريفية كانت تتكون من غرفة واحدة، حيث كان يدرس فيها فقط أساسيات التعليم الأساسي (الابتدائي). ولم تكن خبرته في الثانوية أفضل حالاً، لكنه واصل تعليمه في المدرسة وتخرج ليلتحق بكلية أونتاريو للزراعة في جويلف. ودرس هناك الحيوانات الداجنة، لكنه وجد جو الدراسة غير ملهم، ثم اغتنم إحدى الفرص ليلتحق بجامعة كاليفورنيا ببيركلي، وبعد سنتين قضاهما في بيركلي بعث إلى جامعة كاليفورنيا في ديفيز. وعين هناك رئيساً لقسم الاقتصاد والاقتصاد الزراعي وإدارة ومحاسبة الزراعة. وكان أيضًا الأستاذ الوحيد لتدريس هذه المواد. ومنح في عام 1934م درجة الدكتوراه لأطروحته في الاقتصاد الزراعي. وفي العام نفسه قدمت له جامعة هارفارد وظيفة مدرس. وحاول جالبريث الاستفادة من العرض للحصول على مزيد من المال في ديفيز، لكنه منح إعفاءً. وقد كتب لاحقًا مستعيداً الأحداث الماضية قائلاً: إن أعظم حب في حياتي قد انتهى. وقضى في هارفارد بعضًا من وقته مدرسًا وأصبح صديقًا مقربًا من جوزيف كنيدي جي آر. ثم أصبح أكثر أهمية عندما تم تنصيب جون كنيدي رئيساً. وفي أثناء ذلك الوقت قابل وتزوج كاترين أتواتر، التي رآها حينما كانت تقوم بإلقاء خطبة الوداع في كلية سميث، حيث كانت قد جاءت للدراسة في رادكليف، وأصبحت أستاذة مرموقة للغة الألمانية في جامعة كامبردج. رزق جالبيرث بأربعة أبناء، وتوفى ابنه الأول وهو شاب. وقد وصف جالبريث بأنه رجل مظاهر ويتمتع بروح الدعابة، والعجرفة، ويقال إنه تأثر بانحداره من أتباع مذهب كالفين. وهو شخص ذو حجم متناسق، ومن الرجال الموهوبين في الكثير من المجالات ويحمل صفات متناقضة ظاهرياً.
وتوسعت اهتمامات جالبريث في جامعة هارفارد لتشمل ليس فقط الاقتصاد الزراعي، بل الاقتصاد بمفهومه الواسع والتنظيم الصناعي كذلك. وتعاون في عام 1938م مع دينيسون في دراسة المنافسة الحديثة والسياسة التجارية. Modern Competition and Business Policy, 1938. وفي عمل يوجز بعض آرائه الأخيرة، تبنى الكاتبان نظرة حاسمة في النموذج التنافسي للاقتصاد لتوضيح عملية سياسة مقاومة ومكافحة الاحتكار. وفي مكان النظرية اللاحقة، طالبا بقانون أكثر إيجابية وشمولية لتنظيم الشركات والمؤسسات التجارية.
لم يمكث جالبريث طويلاً في جامعة هارفارد، وإبان فترة وجوده هناك كان مهتمًا بمجموعة من الأمور. فقد كان أكاديميًا بارعًا في الجامعة ومستقصيًا ومدرساً وباحثاً في داخل وخارج الحكومة والمؤسسات الأكاديمية في الداخل والخارج. في عام 1941م عندما بلغ الثالثة والثلاثين من عمره استقر به المقام في واشنطون، حيث أصبح نائبًا إداريًا لمكتب إدارة الأسعار، وقد جعل منه هذا المنصب أحد أباطرة الاقتصاد في الولايات المتحدة حتى ترك هذا المنصب في عام 1943م. وتكشف لنا نظريته الخاصة بمراقبة السعر عن عمله الجيد في مراقبة الأسعار.
وانضم في عام 1943م لمجلس محرري مجلة الثروة. كان في حاجة إلى خبرة في كتابة الافتتاحيات الصحفية، وقد صرح بأن هنري لوك قد ساعده كثيراً. وبعد أن عمل مع مجلة الثروة عاد مرة أخرى إلى هارفارد في عام 1949م وأصبحت الجامعة قاعدة لانطلاقته منذ ذلك الحين.
وإذا ألقينا نظرة على المهن التي شغلها، فمن الأهمية بمكان أن نفهم خبراته السياسية.
وكما أوضحنا سابقاً، فقد كان جالبريث ذا صلة بجون وجوزيف كنيدي عندما عمل أستاذًا في هارفارد. وهذه الصلة المبكرة ساعدته في تمتين علاقته بالحزب الديمقراطي. وبعد عمله كبيروقراطي في بداية الأربعينيات إبان حكم فرانكلين روزفلت، شوهد من ضمن بطانة إدلاي ستيفنسون خلال الحملة الرئاسية لعام 1952م. وكان يلعب دور المرشد وكاتب الخطب. وعندما خسر ستيفنسون أصبح رئيسًا للجنة السياسة المحلية للمجلس الاستشاري الديموقراطي. وقد كتب جالبريث خلال سنوات نشاطه مع الحزب أن علاقته بالحزب تراوحت بين كونها علاقة غير سهلة إلى غير سوية. غير أن علاقته بجون كنيدي كانت مختلفة. وعمل مع الرئيس مدير حملة نشطًا وكاتب خطب قبل الانتخابات واختير بعد انتخابه سفيرًا في الهند. وكان موضع فخر لصياغته لخطاب كنيدي الافتتاحي والذي جاء فيه: “ينبغي علينا ألا نتفاوض انطلاقًا من الخوف، بل ألا نخاف من أن نتفاوض”. وعمل جالبريث بعد موت كنيدي من أجل إنهاء الحرب في فيتنام. وقد شارك في حملتي أيوجين ماكارثي وجورج ماغوفيرن. وكان في ذلك الوقت يتمتع بنفوذ كبير في الحزب الديموقراطي، ولا يهدأ له بال عندما يشعر أن لديه نقطة يريد توضيحها.
مساهماته وتأثيره:
لقد كتب جالبريث نحو عشرين كتاباً تعالج مواضيع اقتصادية وأخرى تتعلق بالشأن العام، وعند مراجعة أعماله نرى أن ثلاثة من أعماله الرئيسة قد ورد ذكرها أكثر من الأعمال الأخرى. فقد استشـهد النقاد ومؤيدوه كثيرًا بأعماله الآتية: المجتمع الغني The Affluent Society, 1958.، والدولة الصناعية الحديثة The New Industrial State, 1967. والرأسمالية الأمريكية American Capitalism, 1952 أكثر من أي عمل من أعماله الأخرى. ومن أجل فهم جالبريث بشكل جيد، من المهم أن نطلع على نقاطه الأساسية في هذه الكتب.
يعتبر كتاب الرأسمالية الأمريكية American Capitalism أول كتاب صنف كأفضل كتاب من حيث المبيعات والذي صدر عام 1952م. وجادل في هذا الكتاب بأن الأمريكيين يعانون من شكل من أشكال العصاب الاجتماعي، ومن الشعور بعدم الأمان المبني على الوهم. وبدلاً من أن يصبح الأفراد مرضى، فقد كان المجتمع الأمريكي هو المريض. وكان تشخيصه أن الأمريكيين هم أسرى لأفكار جعلتهم ينظرون إلى العالم نظرة ريبة وقلق. وعملت الأفكار التي برزت في الفترة من 1945م إلى 1950م على تضخيم الشعور والإحساس لدى الأمريكيين بحالة التنبه إلى الخطر أكثر من فهم الاقتصاد. وقدم في هذا الكتاب هذه النظرية المتعلقة بتوازن السلطة ليشرح عمل النظام الاقتصادي… مكافحة الاحتكار، ودافع بشدة عن تعديل قوانين مقاومة الاحتكار حتى يجعلها متناغمة مع مفهومه الجديد. وفي نظريته التقليدية “اقتصاديات المنافسة”، أوضح التحفظ في سلطة الاقتصاد الخاص الذي يتم توفيره من قبل منشآت أخرى في السوق نفسه. وفي العقود الحالية ضعف التنافس في الأسعار من جانب البائع في السوق وفشل الاقتصاديون في فهمهم أن المشترين قد انتظموا في دفاع عن النفس في مواجهة مثل هذه القوة الاقتصادية المركزة، وأن القوة الاقتصادية الخاصة في جانب من السوق بدأت تظهر ميلاً تجاه القوة الاقتصادية المركزة، وأخرجت إلى الوجود مشترين أقوياء، وكذلك أخرجت بائعين أقوياء.
وهؤلاء الذين لم يستفيدوا من قوة المساومة كان لديهم حافزان للجوء لمقاومة المنظمة، أولاً، ليدافعوا عن أنفسهم ضد القوة غير المنضبطة (Unchecked Power) للآخرين. ثانيًا، لمشاطرة المكاسب الاحتكارية التي من المحتمل أن الأخيرة هي التي تقدمها. وبالتالي إذا كانت المنافسة لم تعد قوة مولدة ذاتيًا لأن الأشكال الحديثة لا يمكنها أن تدخل بقوة في مجالات التركيز، فإن هناك فرصة جيدة تتمثل في ظهور قوة موازية في الجانب الآخر من السوق.
لقد نوه جالبريث عن سوق العمل بوصفه عامل توضيح جيد للقوة الموازية. وأن أموراً مثل التباين في قوة المفاوضة بين الشركات الكبيرة وبين الأفراد، والعامل غير المنتسب إلى نقابة عمالية مع كل أشكال الظلم التي قد تجلبها له هذه العلاقة، تستدعي ثورة تصحيحية من قبل المنظمة المقاومة. ويستمر جالبريث ليقول: إن النقابات القوية هي نتاج لمؤسسات قوية. وفيما يتعلق بمفهوم توازن القوة في المجتمع الأمريكي، يشعر جالبريث أنها يمكن أن تعمل على تخفيف حالات التوتر الاجتماعية في مجتمعنا، ويمكن أن تكون الحكومة عبارة عن عنصر حمل للمحافظة على توازن القوة بين العديد من الجماعات الاقتصادية في مجتمعنا.
لقد أحدث هذا الكتاب والأفكار المتعلقة بتوازن القوة ضجة في عالم الاقتصاديين، وقوبل بنقد مادح وغير مؤيد له معاً.
وحقق كتاب المجتمع الغني The Affluent Society نجاحاً عظيماً ونشر عندما بلغ الخمسين من عمره. وهذا الكتاب عن: “المجتمع عندما يكون فيه الغنى كامنًا أكثر من كونه ظاهراً، ويتمتع بنظام إنتاجي مزدهر، والذي ينشر فوائده بسخاء، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى وقت طويل قبل أن ينعم الكل بثرائه”.
يستخدم جالبريث في هذا الكتاب عبارة مهمة جداً بالنسبة لفكرته الرئيسة التي يسميها “الحكمة التقليدية”. وتعني العبارة أنه لم يكن المتحررون أو المحافظون دائمًا على خطأ، غير أن كثيراً من معرفتهم التقليدية وحكمتهم توجد في أحوال كثيرة فيما كان موجوداً في الماضي والذي لم يعد موجوداً. إن هذه الحكمة تقاوم التغيير وتشوه نظرة المجتمع. ويستطرد جالبريث من هذا المفهوم عن الحكمة التقليدية، ليناقش “اقتصاديات اليأس” – حالة اليأس عن الوضع الاجتماعي الإنساني – إن الإنسان يسيره الاعتقاد بأن الفقر هو قدر الجنس البشري. وهذا أيضًا يقود إلى فكرة جالبريث القائلة بأن الإنتاج يأتي أولاً وليس الطلب. ويعمل المنتج على خلق أو استنباط الرغبة (الاحتياج) الذي تنتج عنه عملية الشراء من قبل المستهلك. إن خلق العوز يتحقق من خلال الإعلان والفنون المصاحبة له. وقد سمى هذا التحليل المعكوس للطلب “تأثير التبعية”. إن التركيز الذي نضعه على الإنتاج لإشباع الرغبة (الاحتياج) المستنبط لا يقود إلى حالة عدم الاستقرار والتضخم والإنتاج مختل التوازن فحسب، بل يؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي ما دمنا لا نمتلك القيم لإنتاج ما نريده لمقابلة احتياجنا الحقيقي، وهناك ثمن باهظ لذلك يقع على عاتق المجتمع.
وقبل نهاية الكتاب يتحدث جالبريث عن طبقة من الناس يطلق عليهم اسم الطبقة الجديدة. وهو يشير إلى أنه في المجتمع الغني هناك الكثير والكثير من صنوف العمل التي تحسب على مفهوم التعليم والحالة العلمية، وذلك لسد حاجة القوة العاملة ذات التدريب رفيع المستوى. وينتج عن هذا بعض الخلافات طالما لا تشعر العمالة المدربة بالارتياح لهذه القيم. لقد حدث مثل هذا في عام 1967م إلى عام 1968م خلال حرب فيتنام.
ويبدو أن رجال الاقتصاد لا يتفقون مع رسالته الاقتصادية، ويتدرج نقدهم من الاختلاف المهذب في الرأي إلى الازدراء المهين! لكن يجب القول أيضًا إنه قد تم ترشيحه من قبل لجنة جمعية الاقتصاديين الأمريكيين ليعمل في أرفع مكتب لها، حيث اختير رئيسًا من قبل الأعضاء عام 1972م.
انتشر تأثير جالبريث حيث امتد إلى العديد من أوجه المجتمع، وكتب العديد من الأمور التي تناولت مجموعة واسعة من المواضيع. وسواء أكان مخطئًا أم محقاً، لكنه فيما يبدو استطاع أن يقنع الناس ليستمعوا إليه، كما أن له قوة إقناع كبيرة مع أي عمل يقوم به.
مسرد لأهم أعماله:
- Galbraith, John Kenneth, American Capitalism: The Concept of Countervailing Power, (Cambridge, Mass: Riverside Press), 1952.
- Galbraith, John Kenneth, The Affluent Society, (Boston: Houghton Mifflin), 1958.
- Galbraith, John Kenneth, The New Industrial State, (Boston: Houghton Mifflin), 1967.
- Galbraith, John Kenneth, A Life in our Time, (Boston: Houghton Mifflin), 1981.
- Galbraith, John Kenneth, A Theory of Price Control, 1952.
- Galbraith, John Kenneth, Modern Competition and Business Policy, 1938.
- Galbraith, John Kenneth, A Journey Through Economic Time, 1994.
- Galbraith, John Kenneth, The Good Society: the Humane Agenda, 1996.
المصدر:
د. إبراهيم علي ملحم (2008)، علماء الإدارة وروادها في العالم: سير ذاتية وإسهامات علمية وعملية، (القاهرة: المنظمة العربية للتنمية الإدارية).