في زمن تتسارع فيه التحديات وتتصاعد فيه طموحات المجتمعات إلى خدمات حكومية أكثر كفاءة واستدامة، تبرز الحوكمة بوصفها الإطار الأكثر تأثيراً في رسم معالم المؤسسات الحديثة. فالحديث عن تطوير الأداء الوظيفي لم يعد منفصلاً عن تطبيق مبادئ الحوكمة، بل أصبح التزاماً هيكليّاً يتطلب إعادة تعريف ثقافة العمل الحكومي برمّتها.
لقد أرست مملكة البحرين منذ انطلاق مشروعها الإصلاحي أسساً دستورية وتشريعية تؤكد التزام الدولة بمبادئ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون، وهي المبادئ التي تشكل جوهر الحوكمة الرشيدة. ومع إطلاق رؤية البحرين الاقتصادية 2030، انتقل هذا الالتزام من النصوص إلى السياسات التنفيذية، حيث تم وضع معايير واضحة لتحسين كفاءة الإنفاق، ورفع جودة الخدمات، وتعزيز العدالة المؤسسية في مختلف القطاعات.
إن ما يميز التجربة البحرينية في هذا السياق هو سعيها إلى ترسيخ الحوكمة في جميع مفاصل العمل الحكومي، باعتبارها آلية لتحقيق الاستدامة المالية والإدارية معاً. فاعتماد برنامج عمل الحكومة (2023–2026)، القائم على تعزيز التنافسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، يعكس فهماً متقدماً لدور الحوكمة كشرط أساسي لنجاح الخطط التنموية. وقد تجلى هذا الفهم بوضوح في تبني منهجيات تركز على كفاءة الإدارة وجودة الأداء، لا على حجم الإنفاق وحده، بما يؤكد أن الحوكمة الرشيدة ترتكز على حسن توظيف الموارد وتحقيق القيمة المضافة من كل عملية إدارية.
وفي سياق التحولات النوعية في الأداء الحكومي، يأتي القرار الذي تفضل بإصداره صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفه، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بنقل مديري الموارد البشرية والمالية في كافة الوزارات إلى وزارة المالية والاقتصاد الوطني، كترجمة عملية لرؤية المملكة في تعزيز الحوكمة المؤسسية. فهذا القرار الاستراتيجي يعزز من كفاءة الأداء ويرسّخ مبدأ التكامل الوظيفي بين الجهات الحكومية، ويُجسد مبادئ الشفافية والمساءلة كواقع عملي، مؤكداً أن الحوكمة في البحرين لم تعد مفهوماً تنظيريّاً بل أصبحت خياراً وطنيّاً راسخاً تنطلق منه السياسات العليا وتُبنى عليه القرارات السيادية المؤثرة في حاضر الجهاز الحكومي ومستقبله.
ولعل من أبرز ما يعزز هذا المسار الوطني أيضاً، التوجهات التي أكدها صاحب السمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفه، ممثل جلالة الملك للأعمال الإنسانية وشؤون الشباب، بشأن ترسيخ ثقافة الولاء الوظيفي ومكافأة الكفاءات الوطنية. وهي توجيهات تعكس فهماً عميقاً للعلاقة العضوية بين بيئة العمل الصحية ومستوى الأداء العام للمؤسسات. فالولاء المؤسسي لا يُصنع بالأوامر، بل يُبنى عبر بيئة عمل عادلة تحترم الجهود وتعترف بالتميز، وهي فلسفة جوهرية في فكر الحوكمة المعاصرة.
ومن واقع خبرتي البحثية والأكاديمية، فإن تطبيق مبادئ الحوكمة يترك أثراً مباشراً على الأداء الوظيفي، ليس فقط برفع معدلات الإنتاجية أو تقليص مظاهر الهدر، بل عبر إعادة صياغة العلاقة بين الموظف والمؤسسة على أساس الحقوق والواجبات والعدالة. وعندما تتحول الحوكمة إلى ثقافة مؤسسية، تنشأ بيئات عمل محفزة على الإبداع، قادرة على استقطاب الكفاءات، وتعزيز استدامة التميز المؤسسي.
إن الرهان اليوم لا يقوم فقط على تحسين الخدمات أو ضبط المصروفات، بل على ترسيخ فلسفة الحوكمة كنهج يومي في العمل الحكومي. ومتى ما تحقق هذا التحول الثقافي، تمكنت المؤسسات من مواجهة تحديات المستقبل بثقة، واستطاعت البحرين أن تمضي قدماً نحو تحقيق رؤيتها الوطنية بأيدٍ وطنية وكفاءات مؤسسية راسخة.
فالاستثمار في الحوكمة ليس التزاماً إداريّاً فحسب، بل رهان وطني على المستقبل.
في المقال القادم سأتناول بتفصيل أوسع كيف يمكن لمبادئ الحوكمة – لا سيما الشفافية، المساءلة، والعدالة المؤسسية – أن تتحول من مفاهيم إدارية إلى ممارسات عملية قادرة على إحداث تحول نوعي في بيئة العمل الحكومي، مع استعراض أبرز التطبيقات الوطنية التي جسدت الحوكمة واقعاً ملموساً، لا شعاراً تنظيميّاً.
أخبار الخليج. عبير محمد دهام / أبريل 2025